في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٥

د. محمد جلال هاشم - 11-07-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٥ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (5)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


الحرب الأهلية ظاهرة ارتبطت بالدولة الوطنية
أكثر ما هدّد الدولة الوطنيّة ظاهرة خطيرة ارتبطت بها، ألا وهي ظاهرة الحرب الأهلية. فقبل بروز الدولة الوطنية لم تكن هناك حروب أهلية بالمعنى الصحيح للكلمة. فالوطنية، بين عدة دلالات، تعني حبّ الوطن والاستعداد لافتدائه ليس بالغالي والنّفيس فحسب، بل بالمهج والأرواح؛ وهذا ما تُعورف عليه بالحسّ الوطني Patriotism. وإنّما في سبيل الأوطان نشبت الحروب بين الأمم والشّعوب، وهلك الحرثُ والنّسلُ. إلاّ أنّ الحسّ الوطني في ظلّ الدّولة الوطنيّة ظلّ يتراوح ما بين منظوري بوتقة الانصهار والوحدة في التّنوّع. فالدّولة الوطنيّة قامت، في جانب منها، على الانسجام والتّناغم الثّقافي واللغوي، بل السلالي والدّيني. وعلى هذا وجدت نفسها تجري وفق حرائك بوتقة الانصهار، مثلُها في هذا كمثل الدّولة الإمبراطوريّة المفتوحة. ولكنّها، في الجانب الآخر، قامت على الحكم بموجب الحقّ الأرضي Secular الذي يستند على المواطن بوصفه مصدر السّيادة والسّلطة كونه دافع الضّرائب التي منها تستمدّ الدّولة قوّتها المادّيّة والرّوحية. وعلى هذا وجدت نفسها تجري وفق حرائك منظور الوحدة في التّنوّع بصرف النّظر عن السلالة أو المعتقد أو الثّقافة أو اللغة. ولا تزال الدّولة الوطنيّة إلى اليوم، أكانت في أوروبّا أو أمريكا أو أفريقيا أو أيّ مكان آخر، تتراوح ما بين هذين القطبين المتناقضين بنسب متفاوتة.
هذا التّراوح ما بين هذين القطبين هو الذي يحدّد ما إذا كانت الوطنيّة أو الحسّ الوطني سوف تنتهي صلاحيّته قريباً، أو أنّه قد فقد صلاحيّته بالفعل. فالوطنيّة (الحسّ الوطني) شيئ حادث وليس قديماً؛ وعليه، يمكن أن ينتهي بمثلما بدأ. إذا قامت الدّولة الوطنيّة على منظور الوحدة في التّنوّع، فإن الوطنيّة (الحسّ الوطني) سوف تكتب لها الدّيمومة والاستمراريّة ما استمرّت الدّولة الوطنيّة في سياستها هذه. لكن إذا تقاصر الوعي الوطني وقامت الدّولة الوطنيّة على منظور بوتقة الانصهار، فإنّ الوطنيّة، أو الحسّ الوطني سوف يأتيه يوم يفقد فيه صلاحيّته. تُرى متى يحدث هذا؟ هذا يحدث عندما تعلن الدّولةُ الحرب على قطاع من مواطنيها فتشرع في تقتيلهم على أساس السلالة أو المعتقد أو الثّقافة واللغة، أو جميعها. أي أن تلعب الدولة دوراً رئيسياً في قيام الحرب الأهلية، تتبعها في ذلك الحكومة أو نظام الحكم السائد، ذلك عندما تنكفئ الدّولة الوطنيّة على منظور بوتقة الانصهار لا تعدوه، نافرةً بطريقةٍ مؤسّسة من منظور الوحدة في التّنوّع. وهذا يشي بالطبيعة الهيكلية للدولة الوطنية بحيث يفضي صراع السلطة فيها إلى نسف وطنيتها كيفما كان شكل وطبيعة الحكومة فيها. بهذا تكون الدّولة نفسها قد أصبحت غير وطنيّة ولا تقوم على قيم المواطنة، فتجعل قصارى همّها حمل مواطنيها على تبنّي صيغة حياتيّة بعينها من حيث المعتقد والعرق (بوصفها فهماً أيديولوجياً بحتاً) والثّقافة واللغة.
اليوم يقف انفصال جنوب السّودان كاستجابة منطقية لسياسات الدّولة السّودانيّة كشاهدٍ ودليل على فقدان الدّولة السّودانيّة لوطنيّتها. وكذلك تقف حالات المطالبة بتقرير المصير في جبال النّوبة والنّيل الأزرق (ولاحقاً دارفور لا محالة، وغيرها وغيرها) كدليل على أنّ الوطنيّة السّودانيّة قد فقدت صلاحيّتها وانتهى أجلُها. فهذه هي المناطق التي أعلنت الدّولة السّودانيّة بقضّها وقضيضها (بجيشها وجنجويدها) الحرب عليها، كما لو أنّ من يعيشون فيها ليسوا بسودانيّين.
كما تقف حملاتُ الإدانة والشّجب إزاء المطالبة بتقرير المصير من قبل من يصنّفون أنفسهم على أنّهم معارضون لنظام الإنقاذ كشاهدٍ ودليل على تواطؤهم الأيديولوجي مع دولة الإنقاذ في صلب شروطها الأيديولوجية. وهؤلاء من أسميناهم بالخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية. فهؤلاء يريدون من شعوب جبال النّوبة والنّيل الأزرق ثمّ دارفور أن يموتوا بالمجّان وإلى ما لا نهاية في سبيل أن يحقّقوا لهم السّودان الدّيموقراطي العَلماني الموحّد، بينما هم يعيشون بمنأى عن الحرب الأهليّة وويلاتها. هؤلاء هم المركز في أسوأ تجلّياته، وما ركيزتهم السّلطويّة إلاّ الدّولة السّودانيّة المعطوبة التي تقف دولة الإنقاذ كممثّل شرعي لها وكناتج طبيعي لها أيضاً، لا بوصفها نبتاً شيطانياً هبط في حَلْكةِ الليل.
من الواضح أنّه لا يمكن الحفاظ على السّودان الموحّد طالما ظلّت الدّولة تحتكم في حرائكها الأساسيّة على بوتقة الانصهار، أللهمّ إلا بانكسار قوى الهامش واندحارها في حروبها النّبيلة المفروضة عليها من قبل دولة المركز الإسلاموعروبي. ثمّ بعد انكسارها، تبدأ رحلةً طويلة في سبيل استعادة حقوقها من خلال حقيقة انكسارها وتأمينها على الانتصار النّهائي للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، ذلك باتّخاذها من هذا الانكسار والانهزام مصدراً كبيراً للقوّة والمقاومة power of total Vulnerability انتظاراً لانقشاع جائحة الأيديولوجيا واستعادتها للحسّ العام السّوي؛ أي انتظاراً لهذه الأيديولوجيا الغاشمة أن تفقد الرّغبة في البطش والتّنكيل لإيمانها بأنّها قد حقّقت انتصارها النّهائي. وهذه الخلايا النّائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة إذ تسعى لهذا وتعمل لا من مقاعد هذه الأيديولوجيا الوثيرة، بل من مقاعد القوى المهمّشة تدليساً وتخذيلاً، إنّما تفعل ذلك لأنّ هذا هو النّموذج الذي يقدّمه لها التّاريخ، تاريخ المنتصرين. ولهذا هم لا يعرفون غيره. وهذا هو السّبب في سعيهم لحمل قوى الهامش لتوقيع التّنارزات والتّسويات، مرّة باسم "التّسوية التّاريخيّة"، ومرّةً باسم "الهبوط النّاعم" وهلمّ جرّا، وولكن هيهات لها أن تنتصر حتّى في انهزامها وانخذالها هذا ــــ هيهات! هذه الخلايا النائمة لا تنتمي فقط للمركز بجدارة وعن أصالة فحسب، بل هي أسوأ من هذا، كونها تتخفّى في زي الهامش وقد تتظاهر بأنّها تخوض معه ومن أجله هذه الحروب. هذا بينما هي في الواقع تفكّر بعقلية نخّاسي الرّقيق.